ترجمة خاصة - قدس الإخبارية: قال الجنرال الاحتياط في جيش الاحتلال وصاحب ما يعرف بـ”خطة الجنرالات” غيورا إيلاند، إن التاريخ حافل بالأمثلة التي حدد فيها القادة أهدافًا للحرب دون التأكد من أن الوسائل المتاحة كافية لتحقيقها، مشيرًا إلى أن أحد الكتب التي تناولت هذا الموضوع بعمق ونالت تقديرًا كبيرًا من المؤرخين والعسكريين هو كتاب المؤرخ الأمريكي جون لويس غاديس “الاستراتيجية الكبرى” (On Grand Strategy)، الذي استعرض 2500 عام من التاريخ وخلص إلى أن الإخفاقات العسكرية الكبرى عبر العصور نتجت عن فجوة واسعة وغير مدروسة بين أهداف الحروب وبين الإمكانيات الواقعية لتحقيقها.
وبحسب كتاب غاديس، فإن أهداف الحروب ليست أكثر من شعارات لفظية، بينما يتطلب تحقيقها فهمًا عميقًا للوسائل اللازمة والعوائق المحتملة، وإن غياب المراجعة الجادة لكيفية سد الفجوة بين الأهداف الطموحة والوسائل المتاحة يقود إلى كوارث جسيمة.
واستشهد إيلاند بنموذج تاريخي يتناوله غاديس يتعلق بمحاولة الملك الفارسي كسرى، الذي يقال إنه أحشويرش، غزو اليونان عام 480 قبل الميلاد، حين امتلك جيشًا ضخمًا قدّره المؤرخ هيرودوت بمليون جندي، حتى وإن كان العدد مبالغًا فيه، فقد اتفق المؤرخون على أن الجيش الفارسي كان أضخم بكثير من نظيره اليوناني. غير أن كسرى تجاهل عدة عوامل كان من شأنها تقويض خطته، أبرزها شجاعة الإغريق، والتضاريس الوعرة لليونان التي صعّبت على جيش ضخم ومثقل العتاد استغلال تفوقه العددي، فضلًا عن صعوبة إمداد جيش بهذا الحجم في حرب طويلة، وتفوق الإغريق – ولا سيما الأثينيين – في القتال البحري. وأوضح أن تجاهل هذه العوامل مكّن اليونانيين من إلحاق هزيمة قاسية بالفرس، معتبرًا أن كسرى كان نموذجًا للقائد الذي يعتقد أن مجرد الرغبة في تحقيق هدف طموح تكفي لبلوغه.
وانتقد إيلاند غياب النقاش الجاد في المؤسسة "الإسرائيلية" حول الفجوة بين الهدف المعلن للحرب في غزة – وهو إسقاط حكم حماس – والوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك، مؤكدًا أنه منذ بدء عملية “عربات جدعون” قبل نحو خمسة أشهر لم يجرِ طرح السؤال الجوهري: كيف يمكن أن تحقق هذه العملية ما فشلت العمليات السابقة خلال 16 شهرًا في تحقيقه؟ وهل يكفي استبدال رئيس الأركان وقائد المنطقة الجنوبية لتحقيق ما عجز عنه أسلافهم؟.
وأضاف أن جيش الاحتلال تجاهل دروسًا عالمية معروفة منذ ستة عقود، مفادها أن وجود قوات عسكرية في مناطق مأهولة ومعادية يعني اندماج المقاتلين بين السكان، وبالتالي استمرار العمليات ضد القوات المحتلة، مشيرًا إلى أن هذا الدرس الذي ظهر في فيتنام وأفغانستان والعراق وجنوب لبنان يبدو أكثر وضوحًا في غزة بسبب شبكة الأنفاق الواسعة.
ولفت إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي حقق نجاحات في لبنان وسوريا واليمن وإيران لأنه لم يكن هناك خلاف سياسي أو أيديولوجي حول العمليات المطلوبة، إذ جرت دراسة المصالح الحيوية بعمق وتحديد السبل الواقعية لتحقيقها، وهو ما منع الاحتكاك بين المستويين السياسي والعسكري، اللذين عملا بتناغم.
أما في الساحة الفلسطينية، فيرى إيلاند أن الضرر الناجم عن التدخلات السياسية والإيديولوجية واضح للغاية. وانتقد بشدة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي يرفض منذ أكتوبر 2023 أي نقاش حول “اليوم التالي” في غزة لتجنب تفجير أزمة سياسية مع شركائه، وعلى رأسهم سموتريتش، مشيرًا إلى أن تعريف نتنياهو لهذا اليوم يختلف جذريًا عن تعريف شركائه اليمينيين، ما يدفعه إلى التهرب من هذا الملف الحساس.
وأوضح إيلاند أنه في فبراير 2025 تهيأت فرصة لإنهاء الحرب بشروط مثالية عبر صفقة تبادل واسعة وناجحة ترافقت مع مبادرة أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تضمنت تصورًا لمستقبل غزة يشمل دورًا لكل من الأردن ومصر، الأمر الذي أجبر الدول العربية، وعلى رأسها مصر، على الخروج من منطقة الراحة وتحمل مسؤولية إعادة إعمار غزة.
لكنه اعتبر أن "إسرائيل" تجاهلت الاقتراح المصري لأن أي نقاش حول “اليوم التالي” يهدد بقاء الحكومة ويعجّل بالانتخابات. وذهب أبعد من ذلك ليؤكد أن نتنياهو تعمد تقسيم صفقات التبادل إلى مراحل لإطالة أمد الحرب، وهو ما دفع حماس إلى التشدد في مواقفها.
ونتيجة لتلك المماطلة، يضيف إيلاند، تخسر "إسرائيل" على جميع الأصعدة: فالصفقات لم تُنجز، وأعداد قتلى الجيش منذ بدء عملية “عربات جدعون” تضاعفت مقارنة بعدد الأسرى الأحياء الذين أُطلقت العملية لأجل تحريرهم، كما أن إسقاط حكم حماس ما زال بعيد المنال، بينما تتلقى "إسرائيل" ضربات قاسية في الساحة الدولية.
وتساءل إيلاند عن سبب غياب النقاش الجاد في فبراير الماضي حول البدائل المتاحة أمام إسرائيل، وهل ناقش الكابينت بموضوعية خيارات مثل الصفقة الجزئية مقابل الصفقة الشاملة، وهل استطاع أي طرف مهني تبرير تفضيل الخيار الأول على الثاني؟ وانتقد غياب “الاستراتيجية الكبرى” عن إدارة الحرب، معتبرًا أن الاكتفاء بقرارات تكتيكية يومية لا يمكن أن يحقق هدفًا طموحًا مثل “النصر الكامل”، الذي وصفه بأنه مجرد شعار أجوف طالما لم يُجرَ نقاش عميق يحدد الزمن المطلوب لتحقيقه، وكيفية قياسه، والكلفة المقبولة له، وما مصير غزة بعد تحقيقه، وهل هناك بدائل أفضل مما قامت به إسرائيل حتى الآن.
وأشار الجنرال "الإسرائيلي" في مقاله إلى أن نتنياهو ليس كسرى وإسرائيل ليست الإمبراطورية الفارسية، لكن عملية اتخاذ القرار التي يجب أن يقودها رئيس حكومة في "إسرائيل" ينبغي أن تقوم على الشراكة، واستعراض واسع لكل الخيارات المتاحة، وتقديم مصلحة الدولة على مصلحته الشخصية.
واستشهد إيلاند بكتاب “مسيرة الحماقة” للمؤرخة اليهودية باربرا توكمان، التي قالت فيه: “عندما تُقدَّم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وحين تحدد الطموحات الشخصية والجشع وسحر السلطة السياسات المتبعة، تكون المصلحة العامة هي الخاسر الأكبر”. وختم متسائلًا: متى سيدرك القادة أن الوقت قد حان لوضع حد لهذه السياسات؟!.